تحقيق : محمد محمود خليفه
قالَ
الإمامُ ابنُ القَـيِّم رحمهُ الله : إذا أصبح العبدُ وأمسى وليس همه إلا الله
وحده تحملَ اللهُ عنه سبحانه وتعالى حوائجه كلها ، وحمـل عنه كـل مـا أهمّّه ،
وفرغ قـلبه لمحبته ، ولـسانه لـذكرِه وجـوارحه لطـاعته ، وإن أصـبح وأمـسى
والـدنيا هـمه ، حـمله الله هـمومها وغـمومها وأنكادها ووكّـله إلى نفسه ، فـشغل
قـلبه عن محبته بمحبة الخلق ، و لسانه عن ذكره بذكرهم ، وجـوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم ، فهو
يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره ، وسبحان الله الوهاب ، فعندما وصل سيدنا موسى عليه السلام إلى مدين
، لم يكن لديه بيت ولا وظيفة ولا زوجة ، فصنع معروفا ، ثم رفع يديه إلى السماء
قائلا ما ذكره الحق سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم : (( رب إنى لما أنزلت إلى من
خير فقير ( ٢٤ )) - سورة القصص ، ولم تغرب شمس ذلك اليوم إلا وصار لديه بيت ووظيفة
وزوجة ، فاللهم إنا نسألك رحمتك وكرمك وجودك وفضلك وسترك وحفظك ورضاك ، ويجب أن
نعلم أن كل الذي يحيط بنا هو بقدر الله ، وكل الذي نطلبه هو من خزائن الله ، وكل
الذي نخافه هو بيد الله ، وكل الذي فات ذهب بأمر الله ، وكل الذي سيأتي هو من عند
الله ، وكل الذي يهمُّك هو بعلم الله ، والله في ذلك كله رحمٰن رحيم فارضى بما
قدَّر لك الله ، ومن تمام المروءةِ ألَّا تَشُقَّ على أحدٍ بما لا يستطيعه بدافع
المحبة ، ولا تحرجَ أحدًا بما لا يقبله بدافع العشم ، ولا تنالَ من أحدٍ شيئًا
بالحياء ، ولا ترى الناسَ عبيدَ ما تطلب ولا تقيس قدرةَ أحدٍ على قدرتك ، ولا
طاقة أحدٍ على طاقتك ، ولا قبول أحدٍ على قبولك ، وعندما يطول البلاء فإن النفس
تتكدر على ما يتسبب فيه من ضياع الأوقات والأموال وإرهاق الأعصاب وتعكر المزاج
وتأثر الصحة ،
ولكن المؤمن الصادق يتذكر أن لا شئ
يضيع عند الله ، بل كله محسوب ،
وقد ذكر الحق سبحانه تعالى جزاء الصبر
قائلا فى سورة هود : ﴿ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ (١١٥ ﴾ ، وقال رسولنا المصطفى عليه افضل الصلاة والسلام [ مَا يُصِيبُ المُؤْمِنَ من نَّصَبٍ وَلَا
وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا ،
إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاه ] ( صحيح البخارى ) ،
فلا تأس على شئ أيها المبتلى ، فإن
صبرت فإن الصبر هو خير استثمار للوقت والمال والصحة ، ولا تفكر فيما تبذله من ذلك على أنه مهدر ، بل
هو رصيد لك هناك يوم القيامة ، يوم لا تنغعك الأموال ، وإنما ما نحتاجه فقط سيكون
الحسنات ، ولو ركزت قليلا ستجد إن عمرك في حياتك ما كنت جاهز لأي حاجة بتحصلك !
بس سبحان الله أول ما بتبقى في الموقف
و تقول يارب بتعمل حاجات مكنتش تتخيل أبدا إنك بتعرف تعملها !
وذلك لأن التوكل و التسليم الكامل لله
مبهر وبسببه تحدث معجزات وهذا قد ذكره الحق سبحانه وتعالى فى سورة الطلاق قائلا :
(( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ
أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قدرًا (٣ )) ، وبطريقةٍ ما ستدرك
وتتيقَّن أنَّ كل اختيارات الله صالحة لك حتى وإن كنت لا تفهم كل أسبابه ،
وبطريقةٍ ما ستدرك أنَّ الطريق الذي اختاره الله لك كان أفضل ألف مرَّة من الطريق
الذي أردته لنفسك ، وأنَّ الباب الذي أُغلِقَ في وجهك كان وراءه شر محض ،
وأنَّ اليد التي أفلتتك لم تكن تناسبك منذ البداية ، وأنَّ البلاء الذي أنهكك
لم يكن سوى رحمةٌ مُهداة من الله ، وأنَّ انهيار الأسباب من حولك لم تكن بالقسوة
التي ظننت ، وإنَّما هي سنة الله في خلقه ، وأنَّ الأمر الذي جفاك النوم من
أجله لم يكن يستحق كل هذا ، وأنك قلقت أكثر مما ينبغي ، وبطريقةٍ ما ستدرك أنك لست مالك أمرك ،
وأنَّ أمرك إن ضاق واستضاق ، له ربٌ هو أولى به ، وأنَّ الله رحيم جدا بنا ،
فهو رحيم بالقدر الذي يُنجينا من شرور البشر ، ومن شرورأنفسنا ، فهو يختار لنا
افضل من اختياراتنا ، فالحمد لله كما ينبغى لجلال وجهه وعظيم سلطانه .